بقلم أ. د. سلوى الربيعي
يعرف البحث بأنه عملية استقصاء وتحقيق منهجي تهدف إلى جمع المعلومات والبيانات ودراستها وتحليلها للوصول إلى فهم أعمق أو اكتشاف جديد. اما تعريف العلمي فانه يعني الطريقة التي يستخدمها العلماء لدراسة العالم من حولهم وإيجاد حقائق جديدة باستخدام خطوات منهجية. فالبحث العلمي يعد من اسمى النشاطات الني يمارسها العقل البشري ويهدف الى صناعة الحياة وتحقيق التطور والنهضة والعمران وبناء المستقبل ، فضلا عن دوره الحيوي في دعم وتحقيق الاستقرار السياسي من خلال جوانب عدة ، اذ يقدم بيانات دقيقة وأدلة موضوعية يمكن استخدامها لتوجيه السياسات واتخاذ القرارات المستنيرة. باختصار، فان البحث العلمي يعد أحد الأعمدة الأساسية لتحقيق الاستقرار السياسي من خلال تقديم الأدلة الموثوقة ، وتحسين السياسات، ودعم الابتكار، وتعزيز التعاون الدولي.
إن الأبحاث العلمية تساعد في تقييم السياسات الحالية وتحديد نقاط الضعف والقوة فيها وهذا يمكن صناع القرار من تحسين جودة السياسات وتطويرها بما يتناسب مع احتياجات المجتمع. لذا عندما تستند السياسات إلى أدلة علمية، فإنها تكون أكثر فعالية في تحقيق الأهداف المنشودة مثل التغير المناخي الذي يمكن أن يوفر للحكومات المعلومات الضرورية لوضع سياسات بيئية مستدامة. في حين ان الأبحاث في مجالات التكنولوجيا الحيوية والطاقة المتجددة يمكن أن تؤدي إلى تطوير تقنيات وحلول جديدة تعزز النمو الاقتصادي وتوفر فرص عمل وتقلل من معدلات البطالة مما ينعكس إيجابًا على الاستقرار السياسي. بالاضافة الى ان مبدأ الشفافية والمصداقية و اعتماد صناع القرارعلى نتائج الأبحاث العلمية المتعلقة بالصحة العامة والسياسات الصحية يعزز من الثقة بين المواطنين والحكومة ويساعدها في وضع استراتيجيات وقائية واستباقية. فضلا عن ذلك ، فان الأبحاث المتعلقة بالأمن الغذائي تساعد في وضع خطط فعالة لمواجهة الأزمات الغذائية المحتملة التي من خلالها يمكن تطوير استراتيجيات للاستدامة الزراعية وضمان توافر الغذاء للجميع في أوقات الطوارئ. علاوة على تطوير تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي من خلال أبحاث علمية مفصلة وتجارب عملية متقدمة، من شأنه استكشاف تطبيقات مبتكرة لهذه التقنيات في مجالات مختلفة.
ولا يخفى على الجميع أن الإنفاق المالي على البحث العلمي يُعد أحد المؤشرات الهامة لقياس تقدم الشعوب ومعرفة مدى اهتمام وتقديرالحكومات لتدعيم مسيرة العلم والتقدم التكنولوجي من جانب، والارتقاء بمجالات التنمية وتحقيق رفاهية الشعب من جانب آخر، وقد تم التعارف على معايير خاصة تساعد في تشخيص نقاط الضعف في توظيف القدرات البحثية في كل دولة، وتم التمييز بين ثلاث فئات من الدول: دول تتمتع بقوة بشرية علمية كبيرة لكنها تعجز عن الاستفادة منها ماليًا، ودول لديها إمكانات بشرية محدودة أو ضعيفة ولكنها تمتلك موارد مالية كبيرة، ودول تفتقر إلى كل من الإمكانات المالية والبشرية. على هذا الأساس، فإن أي خلل في التوازن بين العناصر البشرية والمادية يعوق أي تقدم محتمل في البحث العلمي. ووفقًا لبيانات معهد اليونسكو للإحصاء، التي جُمعت عبر مسوحات إقليمية مصغرة، فإن هناك 4 دول فقط حول العالم تنفق ما يزيد على 100 مليار دولار سنويًا على البحث والتطوير، تتصدرها الولايات المتحدة تليها الصين والاتحاد الاوربي ومن ثم الدول العربية.
يمكن تعريف مراكز الدراسات او الفكر بأنها مؤسسات تعمل على تقديم الدراسات والبحوث الموجهة لصانعي القرار داخل المؤسسات الحكومية، والتي تتضمن العديد من التوجيهات أو توصيات معينة حول القضايا المحلية والدولية، من اجل تمكين صانعي القرار السياسي من صياغة سياسات حول قضايا الدولة العامة و تصحيح القرارات و بناء الرؤى المستقبلية للمجتمع أو الدولة.
في الوطن العربي، كان من اللافت أن مراكز الأبحاث في الفترات الماضية كانت مجهولة الدور والوظيفة، ولم يكن لها تأثير ثقافي أو سياسي يذكر. ومع ذلك، فقد فرضت هذه المراكز وجودها وازدادت نشاطاتها وحراكها على المستوى العربي. وبالمثل، ينطبق هذا الوضع على مراكز الأبحاث في العراق؛ إذ لم يكن لها أي دور يُذكر قبل عام 2003، وحتى بعد هذا التاريخ، لا يزال دورها ضعيفًا جدًا مقارنة بنظيراتها في الدول العربية الأخرى، فضلًا عن الدول العالمية.
وفي سياق آخر، تمكنت بعض مراكز الدراسات العربية من احتلال مراتب متقدمة مقارنة بغيرها، وفقًا لتصنيف جامعة بنسلفانيا الأمريكية، في تقريرها السنوي الخامس عشر حول ترتيب مراكز الفكر في العالم لعام 2020.
تواجه مراكز الفكر بعض الأخطاء بسبب السماح لأشخاص غير مؤهلين علميًا بإجراء الأبحاث وإعداد الأوراق السياسية، مما يعيق تصحيح المسار أو المساهمة في حل مشاكل الدولة. رغم افتتاح مراكز دراسات استراتيجية متعددة، إلا أنها تظل محدودة الأثر ولا تملك دورًا كبيرًا في صنع القرار. بالإضافة إلى ذلك، تقوم بعض مراكز الدراسات بتحليل المشاكل أو قضايا الدولة وفقاً لما يريده الزعيم السياسي، مما يؤدي إلى عدم تقديم جميع المعطيات اللازمة لصياغة القرارات المناسبة.
وفي ضوء ما سبق، تبرز الحاجة إلى مراعاة عدة عوامل لتحقيق علاقة إيجابية وفعّالة بين صنّاع القرار السياسيين والبحث العلمي والباحثين، بغض النظر عن ألقابهم السياسية والعلمية، مثل:
1- ينبغي على الحكومات زيادة تمويل البحث العلمي لتعزيز الاستقرار السياسي وتحقيق التنمية المستدامة.
2- تهيئة بيئة ملائمة وداعمة للباحثين على مختلف المستويات، وتقديم كل المقومات اللازمة لتمكينهم من إنجاز أبحاثهم العلمية بسهولة وكفاءة عالية.
3- إنشاء قنوات فعّالة للتواصل والتفاهم بين الباحثين وصنّاع القرار السياسي، مع ضمان ديمومة هذا التواصل باستخدام وسائل وجهات مختصة ومؤهلة. هذا من شأنه تعزيز التعاون المثمر والفهم المتبادل، مما يسهم في اتخاذ قرارات مبنية على أسس علمية ومعلومات دقيقة.
4- وضع تشريعات عادلة وحضارية تهدف إلى حماية الباحثين وأسرهم، وكذلك إشراكهم في عملية صنع القرار.
5- مراجعة وتحديث القوانين والأنظمة والتعليمات المتعلقة بالبحث العلمي ومراكز الأبحاث والدراسات ، بهدف منع الفوضى والارتباك الحاليين، وضمان منح الصفة القانونية لمخرجات هذه المؤسسات.
6- دعم البحوث العلمية بجميع جوانبها واتجاهاتها، وتوفير الموارد الضرورية لضمان وصولها إلى الجهات المعنية في الدولة أو القطاع الخاص، مما يساهم في تطوير المعرفة وتحقيق التقدم في مختلف المجالات.
7- يتوجب على صناع القرار السياسي مراعاة الحيادية والنزاهة عند التعامل مع البحوث والباحثين، وذلك لضمان تحقيق الموضوعية والعدالة في القرارات والسياسات المتخذة. الالتزام بهذه المبادئ يعزز من مصداقية العمليات البحثية ويدعم توفير بيئة تشجع على الابتكار والإبداع العلمي.
8- عادةً ما ترفع المؤتمرات العلمية توصيات في نهايتها، تُقدّم هذه التوصيات إلى الساسة وصنّاع القرار وسوق العمل. من الضروري أن توصيات الأبحاث تُنفّذ ولا تبقى حبيسة الأدراج ، إذ يمكن أن تساهم في صنع سياسات فعّالة واتخاذ قرارات مستنيرة.
9- توحيد الجهود بتحقيق وحدة البحوث العلمية تحت مظلة عربية واحدة وهذا يتطلب توافقاً سياسياً عربياً شاملاً. من هذا المنطلق، تبرز أهمية التعاون والتنسيق في المجال البحثي لتعزيز الوحدة والتقدم للأمة العربية، اذ يمكن للتعاون البحثي أن يكون المفتاح لتطوير حلول مبتكرة للتحديات المشتركة وتعزيز التبادل العلمي والمعرفي بين الدول العربية.
10- الاهتمام بالجامعات يُعَدّ أساسياً لأنها الحاضنة للبحوث العلمية المتنوعة ومن الضروري توفير الرعاية والدعم اللازمين للباحثين من أساتذة وطلبة، مع التشجيع المستمر لهم في مختلف المجالات. هذا يشمل الدعم المالي، وتوفير البنية التحتية اللازمة، بالإضافة إلى خلق بيئة محفزة للإبداع والابتكار.
11- ضرورة رسم استراتيجية واضحة من أجل تأسيس مراكز الأبحاث في أعلى المستويات، وأن يكون لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي دور كبير ومؤثر في رسم هذه الاستراتيجية.
المراجع
1- عائشة، قادة بن عبدالله وعياد محمد سمير ،دور مراكز الفكر والبحث في صنع السياسة العامة؛ مجلة المستقبل العربي؛ اذار/مارس 2023 ، العدد 529، ص 151.
2- مكاوي، بهاء الدين، القرار السياسي ماهيته – صناعته – اتخاذه – تحدياته، معهد البحرين للتنمية السياسية، 2017
3- القرعان، نبيل، تعريف البحث العلمي، 6 أغسطس 2024، الموقع الالكتروني للموضوع: https://mawdoo3.com
4- الساعدي ، محمد ،واقع مراكز الدراسات في صنع القرار، بين الضرورة الاستراتيجية وتحديات المستقبل : 54:44:16 في 03-03-2022 ، مركز النهرين للدراسات الاستراتيجية – رئاسة الوزراء – مستشارية الامن القومي .
5- البياتين، ارواء فخري عبداللطيف، دور مراكز الابحاث والفكر في صنع القرار السياسي ورسم السياسات العامة في العراق ، المجلة السياسية والدولية ، المجلد 2019، العدد 39- 40 ،ص 29(30يونيو/ حزيران 2019).
6- عبد السلام ، محمد رمضان وبنسعيد فؤاد ، البحث العلمي والابتكار في الوطن العربي ، إتحاد مجالس البحث العلمي العربية، الرابطة العربية لمراصد العلوم والتكنولوجيا ،ص 21 ، ديسيمبر 2023.