المنظمة العربية المتحدة للبحث العلمى

uaosr_img

واقع البحث العلمي وسياسات التعليم في الوطن العربي

 

بقلم :   د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

  باحث وأكاديمي سعودي

المنظمة العربية المتحدة ومركز لندن نظما ندوة علمية في 10/10/2024 تمهيدا للمؤتمر العلمي الدولي والمزمع اقامته من 2 إلى 3 ديسمبر من العام الجاري تحت عنوان ( البحث العلمي وخدمة القضايا السياسية العربية – دراسات استشرافية معاصرة في ظل تنامي الأزمات ) للتوصل إلى تحديد العلاقة بين البحث العلمي وصنع القرار السياسي، مع معرفة تطبيقات عملية على دور البحث العلمي في حل الأزمات السياسية التي تضرب المنطقة، بالاستعانة بدور التكنولوجيا والابتكار المستخدمة في معالجة القضايا السياسية، باعتبار أن البحث العلمي أداة يمكن تعزيز العمل المؤسسي الذي يقود إلى تمكين أصحاب الكفاءات والقدرات من المساهمة في معالجة تلك القضايا.

المؤتمر لا يهدف إلى الحديث عن مخرجات التعليم وعلاقتها بسوق العمل التي ينتج عنها ارتفاع نسب البطالة، وعادة ما تكون معالجتها إلى تولي إصلاحات شاملة تعليمية واقتصادية، بجانب أهمية معالجة محدودية القطاعات الإنتاجية التي تعالج مشكلة البطالة بشكل مباشر من خلال الموازنة بين الاستثمار في البنى التحتية والبنى الإنتاجية مع تعزيز قدرات القطاع الخاص بدلا من الاعتماد المفرط على القطاع الحكومي الذي عادة يتولى المشاريع الاستراتيجية الغير قادر القطاع الخاص على القيام بها، بينما يهدف المؤتمر إلى الحديث عن مرحلة أكبر من مخرجات التعليم، وإن كانت هي أيضا مهمة تدخل ضمن الاستثمار في الرأسمال البشري، بينما المؤتمر يتحدث عن تأثير البحث العلمي في تحقيق التقدم في مواجهة التحديات بجميع أبعادها السياسية والاقتصادية والعسكرية، بل ويستشرف المستقبل لمنع دخول المنطقة في إطار تحديات جديدة محتملة.

 يعد البحث العلمي ركيزة أساسية لتقدم الدول والمجتمعات بجميع تصنيفاتها من دول عظمى، كبرى، متقدمة، صاعدة، نامية، منهارة، حيث تشكل الجغرافيا السياسية للأفكار عنصرا مهما في تحليل القدرات العسكرية والاقتصادية للدول، فمثلا اعتبر المفكرون في الولايات المتحدة انهيار جدار برلين انتصارا أيديولوجيا، وصفه فرانسيس فوكوياما بنهاية التاريخ، أي أن الولايات المتحدة قوة عظمى أبدية لن ينافسها أحد، وهو تحليل مثالي مفرط في التفاؤل اعتمد في تحليله على مناهج تقليدية تعتمد في تحليلها على المثالية بحثا عن الأمثل، ، جعل من هنتجتون يتجه نحو تصويب نظرية فوكوياما مستندا على المنهج التاريخي الذي يستند إلى الأحداث التاريخية في فهم الحاضر والمستقبل، بنظرية أخرى أسماها بنظرية صراع الحضارات رغم انها نظرية أيضا غير واقعية  تدعو إلى الصراع حتى تكون الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد، خصوصا من الصين الصاعدة، وهناك خشية تقليدية تاريخية من قيامة العرب، لأنهم مكثوا نحو 800 سنة من خلال الدولة الأموية في اسبانيا كانت مشعل الحضارة لأوروبا، واستحوذت ألمانيا على 350 ألف مخطوطة كانت نبراس الحضارة الغربية دون الإشارة إليها، وهو ما جعل أحداث تضرب المنطقة العربية مثل أحداث 11 سبتمبر 2003 قادت إلى احتلال العراق بالتعاون مع إيران من أجل إحياء الإمبراطورية الفارسية، وضربت ثورات الربيع العربي 2011 جعل تركيا تطمح هي الأخرى في استعادة العثمانية الجديدة لتأخذ نصيبها من الكعكة العربية، بالطبع إسرائيل ترقب الموقف وتراقب السعودية التي أنقذت البحرين عبر إرسال جيشها لحمايتها من إيران، ودعمت الجيش المصري عام 2011 لإنقاذها من هيمنة تركيا التي يطمح الإخوان أن تكون مركز الخلافة، بذلك صعد دور السعودية مما أجبر أمريكا في زمن ترمب الخروج من الاتفاق النووي الذي وقع عام 2015 بشكل أحادي ووضع عقوبات مشددة على إيران، وعندما أتى بايدن حاول عزل السعودية لكنه فشل، عندها اتجهت السعودية نحو تهدئة مع إيران برعاية بكين، جعل إسرائيل تطالب الاشتراك في المشروع الإقليمي بقيادة السعودية في الممر الهندي الأوروبي، نتج عنه صراع إيراني إسرائيلي بدعم غربي.

إذا كان معدل الانفاق على البحث العالمي 2.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بلغ نحو 536 مليار دولار عام 2018، استحوذت أمريكا وأوروبا على 75 في المائة من إجمالي الانفاق على البحث العلمي في العالم، بالطبع الصين ارتفع فيها الانفاق على البحث العلمي من 30 مليار دولار عام 2005 إلى 136 مليار دولار عام 2018، بينما أمريكا أنفقت 168 مليار دولار، فيما واقع الجامعات العربية كان عدد الأوراق العلمية المنشورة في ISI 410 ألف بحث وورقة علمية احتلت السعودية المرتبة الأولى بنحو 25 في المائة، ثم مصر بنحو 24 في المائة، فتونس 11 في المائة، فالجزائر 8 في المائة، والمغرب 6 في المائة، بذلك تكون الدول العربية غير قادرة على التعاطي مع إنتاج المعرفة جعلها دول مستهدفة ليس فقط مستهلكة، أو مشاركة.

صناعة الأفكار عادة لا تبرز إلا في مراكز الأبحاث، باعتبارها قاطرة التنمية، تجاهلها العرب لفترة طويلة وانشغلوا بالصراعات، فأصبحت بلادهم منطقة صراعات وحروب وتخلف وانتشر الجوع والفقر والجهل كانت مناطق جذب ومهيئة للتعاطي مع التشدد والتطرف والإرهاب، وقابلة لتشكيل منظمات إرهابية مثل القاعدة وداعش، ومليشيات مقابلة مثل حزب الله تحت محور المقاومة والحشد الشعبي ومليشيات الحوثي لخلق بؤر صراع جديدة في تلك الدول، لأن مخرجات مراكز البحوث الغائبة التي يفترض أنها تساهم في سد الفجوة بين المعرفة والسياسات، وهي الثروة المتجددة الحقيقية للمجتمعات، وهي الاستثمار الحقيقي في الرأسمال البشري، باعتبار أن القوة والأفكار وجهان لعملة واحدة، فإذا كانت القوة هي ثقل مادي، فإن الأفكار رصيد استراتيجي لتعزيز مكانة الدولة، لأن أهمية مراكز الأبحاث جامعات بدون طلبة، لكنها رابطة وصلة بين المعرفة والسلطة والقوة.

فيما اهتمت أمريكا وأوروبا بمراكز البحث العلمي منذ فترة بعيدة وبشكل خاص بعد الحرب العالمية الثانية، فأصبح لدى أمريكا نحو ألفين مركزا بحثيا 500 منها في واشنطن، ويتجاوز عدد مراكز البحوث في أوروبا 1800 مركزا، مخرجاتها دراسات معلنة وغير معلنة، موجهة نحو توقع التحديات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومعايير تقييم هذه المراكز مدى استقلاليتها العلمية والمالية لضمان نزاهة عملها، حيث نجد أن توجهات الولايات المتحدة السياسية لا تعتمد على السياسيين والأحزاب فقط، بل تعتمد بشكل كبير على ما يصدر من بيوت الخبرة أو خلايا التفكير Think tanks تشكل قاعدة معلوماتية استراتيجية للأحزاب والحكومات.

لدى إسرائيل 60 مركزا بحثيا مثلها في إيران، بينما تعاني مراكز الأبحاث في العالم العربي من تواضع مخرجاتها بسبب تواضع الثقافة الأكاديمية، وبسبب ضعف مستوى التفكير النقدي في العمل الأكاديمي نتيجة غياب المناخ الفكري، بينما المنطقة بحاجة إلى مراكز أبحاث مستقلة لتكون مخرجاتها إنتاجا فكريا رصينا يرفد صانع القرار برؤى مختلفة عن تلك التي تصدر من مواقع المسؤول الرسمي والهيئات الاستشارية الحكومية، كما في دول الخليج التي اختارت النهوض عبر تبني رؤى تنموية طموحة، كما في رؤية المملكة 2030، فلديها مراكز حكومية ترفد الرؤية من مراكز أبحاث تقنية في شركة أرامكو، وطبية في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض، وتكنولوجية في مركز الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في الرياض، وفي الطاقة النظيفة والمتجددة والنانو في جامعة الملك عبد الله في رابغ، فيما حظي مركز الخليج للأبحاث في القطاع الخاص على مركز متقدم على بقية مراكز الأبحاث الخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

هناك عبئ على مراكز الثقل في المنطقة العربية ممثلة في السعودية التي تستعين عادة بمركز ثقل عربي مصر في انقاذ الدول العربية المنهارة من فكي محوري تيار الإخوان ومحور المقاومة اللذين يلتقيان في محاولة حكم المنطقة العربية من خلال مليشيات مسلحة صنعها هذين المحورين، وبسبب الصراع العربي الإسرائيلي تجمد التقدم العربي، بينما إسرائيل اتجهت إلى التقدم العلمي، والاهتمام بالبحث العلمي، قادها إلى امتلاك القوة في مواجهة هذه المليشيات، بعدما تحول الصراع العربي إلى الصراع الإسرائيلي مع محور المقاومة، بعد دبلوماسية سعودية ذكية توصلت إلى تهدئة مع إيران برعاية صينية قلبت الاستراتيجيات الغربية وتحول الصراع إلى إسرائيلي إيراني.

 ومن أجل تفكيك محور المقاومة لجأت السعودية إلى موازنة اقتصادية أغرت الشرق والغرب ممثلة في طريقي الحزام والطريق والممر الهندي الأوروبي إلى جانب رؤية المملكة 2030 الإقليمية قابلة في مشاركة إيران وإسرائيل، ولكن بعد تفكيك المشاريع الأيديولوجية ممثلة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة للتفرغ للمشاريع الاقتصادية من أجل تحويل المنطقة إلى أوروبا الجديدة تلتقي بأوروبا القديمة، لتشكيل نطاق اقتصادي كبير جدا يربط بين الشرق والغرب، بعد اقناع السعودية إيران وإسرائيل بأن الطموحات تحولت إلى أعباء، باعتبار أن السعودية دولة محورية لها مكانتها الدينية والاقتصادية والعالمية لن تقبل بأي محور يهيمن على المنطقة.

شارك المقالة

شارك الخبر

One Response

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *