uaosr_img

من القاهرة إلى القدس والصرخة في غزة

بقلم : عضو هيئة ملهمي ومستشاري الأمم المتحدة – رئيس مؤسسة الحياة المتزنة العالمية السفير د. أحمد سمير

 

استيقظت كعادتي قبل صلاة الفجر ثم اتجهت إلى مسجد عمرو بن العاص، القريب من بيتي لأداء الصلاة ،  وبعد أن ختم الإمام الصلاة، وختمت أورادي، خرجت من المسجد أستنشق هواء القاهرة المختلط بعبق التاريخ ، حيث يتداخل الحاضر مع الماضي في نسيج ساحر، ولم أكن أعلم أنني على وشك أن أعيش تجربة ستُحفر في ذاكرتي عميقًا. بالقرب من المسجد، انتبهت لمنادٍ للسيارات ، يعلن عن جهة الرحلة على طريقته الشعبية التي يعرفها كل مصري، كان يصرخ: “واحد القدس… القدس واحد!” لم أتمالك نفسي، وهرعت إليه وركبت الحافلة التي انطلقت مسرعة بعد أن اكتمل عدد الركاب، مغادرة القاهرة العتيقة، مدينة الفسطاط، حاملة إرث قرون من الحضارة والنضال، لذا سُمّيت بحق “أم الدنيا“. ومرّ الوقت، وأنا أتابع الطريق عبر النافذة، متأمّلًا في جغرافيا الحنين. مضى السائق شمالًا صوب رفح، عابرًا صحراء سيناء المترامية، تلك الأرض التي ارتوت رمالها بدماء الشهداء في حرب 1973، حيث نُسجت ملاحم الكرامة وسط البراري والجبالها أنا الآن أشم رائحة البحر، تلوح في الأفق مع صدى الأزمنة، فأدركت أنني دخلت فلسطين. مررنا بيافا، المدينة التي عبقت برائحة البرتقال، ثم عسقلان الصامدة، ومجدل المحتلة، وهناك رأيت آثارًا لا تزال تهمس بأصوات قوافل التاريخ الإسلاميوأخيرًا، وصلت بنا الرحلة إلى القدس، إلى باب العامود العتيق، والقلعة، وشارع الواد، حيث تتعانق المآذن وأجراس الكنائس في سيمفونية سماوية هناك حيث المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وكنيسة القيامة، حيث تصطف الملائكة على أبواب السماء، في انتظار دعاء مُستجابلكن النظرة من القدس إلى غزة لم تكن كسابقاتها، فذلك الشريط الضيق، الذي كان يربطه بالقاهرة قطارٌ للسلام، صار اليوم تحت ركام الحصار ونيران القصف ارتفعت دويّ الطائرات لتقاطع حلمي، آلاف البيوت القديمة والأسواق العتيقة تحولت إلى أنقاض، المدارس أُغلقت، وتحولت إلى ملاجئ، وأهازيج الأطفال اختلطت بصوت المدافع غزة تُقتلع من جذورها، والقدس تتعرض لتهويد ممنهج… هكذا تُكسر الأرواح قبل أن يُكسر الحجر. غزة اليوم، بأمسّ الحاجة إلى معبر ينقل لها الصمود والخبز والدواء… معبر يعيد لها الحلم ، هذه الرحلة ليست حلمًا، بل حقيقة أعيشها في وجداني كل يوم، فأين الطريق؟ متى نعود كيانًا واحدًا؟ طريقًا واحدًا؟ مصيرًا واحدًا؟ من القاهرة التي علمتنا كيف تُصنع الحضارة، إلى القدس التي جمعت بين الأديان، إلى غزة التي تختبر الصبر بكل ما تملك… دعونا نعود إلى روح القوافل القديمة، قوافل التضامن التي اخترقت الصحاري لتضيء دروب الحرية لنبنِ معابرَ سلامٍ حقيقية لا جدران من صلب، ولنحوّل دولنا إلى جسور أخوة لا تنهار. من القاهرة إلى القدس… وصدى الصرخة في غزة فالرحلة مستمرة، والنصر حتميٌّ… لمن آمن بأن التاريخ يُصنع بدماء الشهداء وعزائم الأحياء.

شارك المقالة

شارك الخبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *