بقلم : د. فايز علي الضفيري
يمثل البحث العلمي التربوي الركيزة الأساسية للنهوض بالأنظمة التعليمية؛ حيث يساهم في تشخيص المشكلات التعليمية، واقتراح حلول مبتكرة للتحديات التي تواجه المجتمعات، وفي الوطن العربي، يبدو أن هذا القطاع يمر بمرحلة حرجة تتسم بالصراع بين واقع مملوء بالتحديات وتطلعات نحو مستقبل أكثر إشراقًا، وبالرغم من الإمكانيات الهائلة التي تمتلكها الدول العربية، إلا أن البحث العلمي التربوي ما زال يواجه مشكلات معقدة تجعل المنظومات التعليمية غير قادرة على المنافسة عالميًا.
ولا يمكن الحديث عن البحث العلمي التربوي في الوطن العربي من دون الإشارة إلى أزمة التمويل؛ حيث تعاني معظم الدول العربية من ضعف الإنفاق على البحث العلمي بشكل عام، والتربوي بشكل خاص، ففي حين تخصص بعض الدول المتقدمة نسبًا تتجاوز 2% من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي، وفي كثير من الدول العربية لا تتجاوز هذه النسبة عن 0.5%، مما يضعف القدرة على تمويل الأبحاث ذات الجودة العالية.
كما أن الأزمة تتفاقم بسبب غياب الدعم المؤسسي؛ حيث تفتقر العديد من الجامعات والمؤسسات البحثية إلى سياسات واضحة لدعم الباحثين، وهذا الضعف المؤسسي يجعل البحث العلمي التربوي يعتمد في كثير من الأحيان على جهود فردية غير منظمة، ما يؤدي إلى قلة الإنتاج البحثي وضياع أثره.
كما أن الدول العربية تواجه تحديًّا كبيرًا يتمثل في غياب رؤية إستراتيجية موحدة للبحث العلمي التربوي، ففي معظم الأحيان، لا توجد خطط وطنية طويلة المدى تربط بين البحث العلمي واحتياجات المجتمع؛ حيث إن الأبحاث التربوية غالبًا ما تكون منفصلة عن الواقع، وتُركز على موضوعات نظرية من دون تقديم حلول ملموسة للمشكلات الفعلية التي تواجه الأنظمة التعليمية.
وغياب هذا الترابط يجعل نتائج الأبحاث حبيسة الأدراج دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ، وحتى الأبحاث التي يتم تمويلها ودعمها لا تُستغل بشكل فعال في صياغة السياسات التعليمية، مما يُهدر الموارد، ويُفقد الأبحاث قيمتها العملية.
ومن أبرز العقبات التي تواجه البحث العلمي التربوي في الوطن العربي ضعف البنية التحتية المخصصة له؛ حيث إن المكتبات الجامعية غالبًا ما تكون غير محدثة، والمصادر العلمية العالمية ليست متاحة بسهولة للباحثين، كما أن الوصول إلى قواعد البيانات العالمية، والاشتراك في الدوريات العلمية مكلف وغير مدعوم بشكل كافٍ.
إضافة إلى ذلك، يفتقر الباحثون في كثير من الأحيان إلى الأدوات التقنية اللازمة لإجراء أبحاث دقيقة، مثل البرمجيات الإحصائية المتقدمة والمختبرات التربوية، وهذه القيود تجعل الباحث العربي أقل قدرة على إجراء أبحاث تتسم بالدقة والجودة مقارنة بنظرائه في الدول المتقدمة.
ولا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه الثقافة والمجتمع في تشكيل ملامح البحث العلمي التربوي في الوطن العربي، ففي كثير من الأحيان، يُنظر إلى البحث العلمي على أنه ترف فكري، وليس ضرورة تنموية، كما تُواجه الأبحاث التي تتناول قضايا حساسة أو جديدة نوعًا من المقاومة الاجتماعية أو السياسية، مما يدفع الباحثين إلى الابتعاد عن الخوض في موضوعات ذات أهمية خوفًا من الاصطدام مع المجتمع.
هذا بالإضافة إلى معاناة الباحثين العرب من غياب ثقافة التعاون العلمي؛ حيث تغلب النزعة الفردية على العمل البحثي، وهذا الأمر يُضعف من قدرة الباحثين على إنتاج أبحاث مشتركة تُعالج قضايا معقدة من زوايا متعددة.
وعلى الرغم من هذه التحديات والعقبات، إلا أن الأمل في تحقيق نقلة نوعية في البحث العلمي التربوي في الوطن العربي لا يزال قائمًا، وهناك العديد من الفرص التي يمكن استغلالها لتحويل هذا الصراع إلى قصة نجاح.
أولًا: يمكن تعزيز التمويل من خلال إشراك القطاع الخاص في دعم البحث العلمي التربوي، والشركات والمؤسسات الكبرى يمكن أن تؤدي دورًا محوريًا في هذا المجال من خلال تخصيص منح وتمويل مشروعات بحثية تخدم القضايا التعليمية.
ثانيًا: يجب أن تكون هناك إرادة سياسية واضحة لدعم البحث العلمي التربوي، عن طريق وضع إستراتيجيات وطنية تُحدد أولويات البحث، وتربطها بخطط التنمية، وهذه الإستراتيجيات يجب أن تُعزز دور الباحثين، وتفتح المجال أمامهم للمساهمة في صياغة السياسات التعليمية.
ثالثًا: الاستثمار في الكوادر البحثية أمر لا غنى عنه، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تقديم برامج تدريب متقدمة للباحثين، وإنشاء شراكات مع جامعات ومراكز بحثية عالمية لنقل الخبرات وتطوير المهارات.
رابعًا: ينبغي أن يُشجع التعاون الإقليمي بين الدول العربية، عن طريق إنشاء شبكة عربية للبحث العلمي التربوي ما يُسهم في تبادل الخبرات، وتوحيد الجهود لمعالجة المشكلات المشتركة، مثل الاعتماد على الحفظ والتلقين، والمناهج الدراسية، والتعليم الشامل، وغيرها من المشكلات.
وفي الختام، البحث العلمي التربوي في الوطن العربي يعيش حالة من الصراع بين تحديات الواقع ورغبة صادقة في تحقيق التغيير، وهذا الصراع- على الرغم من صعوبته- يمكن أن يكون نقطة انطلاق نحو مستقبل أكثر إشراقًا إذا ما توافرت الإرادة الحقيقية والدعم اللازم، فالأنظمة التعليمية في العالم العربي لن تتحسن من دون وجود بحث علمي تربوي قوي يقود عملية الإصلاح، ويرسم ملامح التغيير، وفي نهاية المطاف، سيظل السعي نحو تحقيق نهضة علمية تربوية مسؤولية مشتركة بين الحكومات، والمؤسسات الأكاديمية، والمجتمع بأسره