uaosr_img

دور الأداة في النظم القرآني

دور الأداة في بناء المعنى وصناعة المشهد في النظم القرآني (سورة الزمر نموذجا)

د. محمود عادل الفقي

مدرس اللسانيات العربية بالمعهد العالي الدولي للغات والترجمة 

يمثّل القرآن الكريم قمة البيان العربي، ومصدرًا دائمًا لإلهام البلاغيين والنحاة والمفسرين، فهو لا يُعدّ نصًا لغويًا فحسب، بل هو خطاب إلهي معجز، نزل بلسانٍ عربي مبين، فحوى من وجوه الإعجاز ما حيّر العقول، وأبهر الفصحاء، وأعجز البلغاء. وأحد أبرز أوجه هذا الإعجاز يتمثّل في النظم القرآني، الذي يتجلّى فيه التماسك النصي، والترابط الدلالي، والتناسق الإيقاعي، على نحو لا مثيل له في سائر الكلام العربي، ويظهر ذلك على النحو الآتي:

1- وحدة البناء والتماسك النصي:

فالقرآن الكريم بناء محكم، لا تفكك في أجزائه، ولا انفصال بين عناصره، فتتصل سوره وآياته وجمله اتصالًا يجعل منها وحدة عضوية متكاملة، وليس هذا التماسك قاصرًا على السور وحدها، بل يشمل السياق العام للخطاب الإلهي؛ إذ تتضافر المقاطع، وتتآزر الألفاظ؛ لتشكل نسيجًا لغويًا متماسكًا، وقد عبّر بعض البلاغيين عن ذلك بقوله: “كأنّ القرآن كله آية واحدة من شدة اتساقه وتلاحم أجزائه.

2- التركيب الفني للألفاظ:

فكل لفظ في القرآن قد وُضع في موضعه بدقة لا تحتمل التبديل، فالألفاظ القرآنية ليست قابلة للاستعاضة أو الترادف بمعناها الاصطلاحي المتداول، لأن كل مفردة جاءت بتقدير وتوظيف فني مخصوص. فحين يُختار فعل دون آخر، أو تُقدم كلمة دون أخرى، فذلك ليس جريًا على السجية، بل هو توجيه بلاغي دقيق يحمل في طياته أبعادًا دلالية تتلاءم مع السياق والمقصد.

3- النظرة الكلية لسياق الكلمات:

فموضع كل لفظة لا يتحدد فقط بما قبلها وما بعدها في السياق القريب، بل أيضًا بوظيفتها في النسيج الكلي للقرآن الكريم، وفي ذلك قال الدكتور محمد عبد الخالق عضيمة: إنّ النظم في القرآن الكريم لا يقوم على التجاور الظاهري فقط، بل على شبكة خفية من العلاقات التي تربط السياقات المتفرقة في أنحاء المصحف، وتمنحها وحدةً تامة في الهدف والوظيفة والأسلوب.”

4- النظم القرآني بين الإعجاز والإبداع البشري

فإذا تأملنا في النظم القرآني بوصفه بنيةً لغوية تتجاوز طاقة البشر، وجدنا أنه لا يقبل المحاكاة. فبينما يمكن تقليد معانيه أو موضوعاته، فإن الطريقة التي يُعبّر بها عن هذه المعاني، وتوزيع الألفاظ، وتآزر الجمل، تخضع لنظام مخصوص لا يستطيع أحد الإتيان بمثله.

وقد ثبت بالتجربة أن محاولات المعارضين لمحاكاة القرآن، سواء في الجاهلية أو في العصور الحديثة، انتهت إلى إخفاقات لغوية ودلالية بيّنة، تُظهر بجلاء الفرق بين “النظم الإلهي” و”الصنعة البشرية”، وتؤكد أن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو وحي ربانيّ متعالٍ.

ثانيا: الواو وأثرها في بناء المشهد القرآني.

يتجاوز التعبير القرآني مجرد نقل الحدث إلى المتلقي، ليصوغ مشهدًا تصويريًّا متكاملًا ينبني على التركيب النحوي بدقة متناهية، حيث يُسهم ترتيب الأدوات والروابط في تشكيل المشهد النفسي والبصري والوجداني. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما ورد في سورة الزمر بين سياق أهل النار وأهل الجنة، في قوله تعالى:  ” وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌۭ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـٰتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا ۚ قَالُوا۟ بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ قِيلَ ٱدْخُلُوٓا۟ أَبْوَٰبَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ۖ فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْا۟ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَٰبُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَـٰلِدِينَ ” الآيات من سورة الزمر ٧١ ـ ٧٣

في السياق الأول، التركيب النحوي يكون فيه الفعل “فُتِحَت” جوابًا مباشرًا لأداة الشرط “إذا” فيدلّ على أن فتح الأبواب لم يقع إلا بعد مجيء أهل النار إليها، أي: إن أبواب جهنم ظلت مغلقة حتى اللحظة التي اصطف فيها المجرمون أمامها، ثم فجأةً، تُفتح الأبواب، وتنطلق الألسنة المشتعلة، واللهيب المتطاير، والشهيق المروع، وهذا البناء يعكس جوًّا من الرهبة والانغلاق، والتحفّز للعقاب، ويُشعر المتلقي بثقل اللحظة وقسوة المشهد، ففتح الأبواب هنا لا يأتي كاستقبال، بل كإجراء تنفيذٍ للعذاب، يُخرج صوتًا مرعبًا، ويمهّد لدخول مفجع، يتبعه إغلاق لا يُرجى بعده خلاص.

أما في السياق الثاني، فإن إدخال الواو على “فُتِحَت” يُخرجها نحويًّا من كونها جوابًا للشرط، ويجعلها جملةً اعتراضية مسبوقة بمقدَّر، يُفهم من السياق، فيفيد أن أبواب الجنة كانت مفتوحة قبل وصول أهلها إليها، فبناء المشهد محقق قبل الحدث، فيُخيَّل إلى المتلقي أن الجنة بأبوابها الذهبية، وعطورها التي تُشمّ من مسيرة آلاف الأميال ، وجنانها الفوّاحة، تقف مشرعةً انتظارًا لقدوم المتقين، وهذا البناء النحوي يرسم مشهدًا نفسيًّا من الراحة، والتكريم، والاستبشار، ويُحمّل اللحظة دفقًا من البهجة والطمأنينة، فدخول الجنة لا يُستهلّ بطرْق باب، ولا بإذن للفتح، بل بعبورٍ ممهَّد، وممرٍ مفتوح، يُشبه دخول المكرّمين إلى دار الضيافة دون حواجز، وفي هذا قمة التبجيل والتكريم. ثم يُتمّ السياق المشهدي: ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾

إنها لحظة تُبنى بالكلمات: فالأبواب تُفتح دون استئذان، والخزنة لا يطلبون بيانًا ولا إذن دخول، بل يبادرون بالسلام والتهنئة، والمشهد قائم على الجمال البصري (الجنة)، والحسي (الروائح)، والسمعي (السلام)، والنفسي (الاطمئنان)، والوجودي (الخلود).

وختاما: يتضح أن إثبات الواو في الجنة تفصل الحدث عن الزمن، لتجعل الفتح سابقًا للحدث، أي: إن الجنة انتظرت أصحابها وهي مفتوحةوحذف الواو في النار يُلصق الحدث بوقته، ويجعله رهن الفعل البشري السابق له، أي إن الفتح لا يقع إلا عند قدوم أهلهاوبهذا، يتحوّل التركيب النحوي إلى أداة لصناعة المشهد، لا مجرد حاملٍ للمعنى، فالحرف الواحد، والواو المفردة، تُبنى عليها طبقات من التصوير، والمفارقة، والدلالة النفسية، بما يعزز التفوق البياني للنص القرآني، ويؤكد أن نظم القرآن ليس فنيًا فحسب، بل تشكيليًا مشهديًا، يُخاطب الحواس والعقل والقلب في آنٍ معًا؛ لتوزيع النور والرعب في مشهدَي الفوز والهلاك، وفي هذه الدقة البلاغية، والإحكام التركيبي، تتجلى عظمة البيان القرآني، الذي يُشيد عوالم كاملة بحرف، ويزرع الرهبة أو الطمأنينة في قلب المتلقي بجملةٍ لا يزيدها التبديل إلا فقدانًا لجلالها.

وبعد، فهذه محاولة مني لاستكناه بعض من أسرار الذكر الحكيم والوقوف على بعض من نتائج نظمه البديع، والله أسأل أن يجنبني الزلل والخطأ فيما ذكرت، وأن يجعلني ممن أحسن صحبة القرآن والعمل به والاقتداء بما جاء فيه، آمين يا رب العالمين.

شارك المقالة

شارك الخبر

One Response

  1. جزاكم الله خيرًا د. محمود على هذا الطرح البديع والتحليل العميق، فقد أبدعتم في كشف جماليات النظم القرآني من زاوية دقيقة، وهي أثر الأداة النحوية في تشكيل المعنى والمشهد.
    لفتتني بشكل خاص المقارنة بين دخول أهل النار وأهل الجنة في سورة الزمر، وكيف تتحول “الواو” من مجرد حرف عطف إلى أداة مشهدية، تصنع الفارق البلاغي العميق.

    زادكم الله علمًا ونفعًا، وجعل هذا العمل في ميزان حسناتكم. نترقب المزيد من دراساتكم الثرية، التي تُعيدنا إلى بلاغة الوحي بنظرات جديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *