المنظمة العربية المتحدة للبحث العلمى

uaosr_img

حدود الحرية ومسؤولية الكلمة

بقلم د. يوسف إمحمد صالح –  أستاذ علم الاجتماع الاعلامي

 

حرية التعبير تُعد من أبرز الحقوق الأساسية التي يعتز بها الإنسان، لكنها قد تُصبح مصدرًا للمشاكل إذا تجاوزت حدودها وتحولت إلى أداة لنشر خطاب الكراهية. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي توفر فضاءً واسعًا للتعبير عن الرأي، بات من الضروري التمييز بين حرية التعبير كممارسة مشروعة، وخطاب الكراهية الذي يُلحق الضرر بالآخرين.

في العالم الرقمي، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي منصات غير مسبوقة للتعبير عن الأفكار ومشاركة الآراء في مختلف المجالات، سواء كانت دينية، سياسية، ثقافية، أو اجتماعية. هذه المنصات أتاحت للجميع فرصة التعبير بحرية، لكن هذه الحرية ليست بلا حدود. فمن غير المقبول أن تتحول هذه المساحات إلى ساحات تهجم على معتقدات الآخرين، أو للسخرية من انتماءاتهم، أو التعدي على كرامتهم بحجة ممارسة “حرية الرأي”. الحرية الحقيقية تُصبح مشروعة فقط إذا مورست ضمن إطار احترام الاختلاف دون المساس بحقوق الآخرين. لكن إذا تحولت إلى إساءة أو تحريض على الكراهية، فإنها تفقد مشروعيتها وتتحول إلى خطاب عدائي مرفوض أخلاقيًا وقانونيًا.

القوانين الدولية، وتحديدًا المادة 19 من الإعلان العالمي للحقوق المدنية والسياسية، قدّمت إطارًا واضحًا لحماية حرية التعبير. هذه المادة أكدت أن هذا الحق مكفول، لكنه مشروط بعدم الإضرار بحرية الآخرين أو تهديدهم. وهذا المبدأ ينطبق كذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تتبع نفس القوانين التي تهدف لحماية الأفراد من أي خطاب يمس معتقداتهم أو أفكارهم أو حقوقهم.

ورغم ذلك، فإن خطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي يتخذ أشكالًا متعددة، مثل التعليقات أو المنشورات المسيئة التي تهدف إلى الإساءة المباشرة للآخرين. أحيانًا، يتحول هذا الخطاب إلى تحريض على الكراهية بدفع الآخرين إلى نبذ مجموعة معينة أو مهاجمتها بسبب انتمائها الديني، العرقي، أو السياسي. في حالات أخرى، يظهر خطاب الكراهية على شكل تشهير أو تهميش بنشر معلومات كاذبة لإلحاق الضرر بالسمعة. وفي أسوأ حالاته، قد يتطور إلى التهديد بالعنف الذي يصل أحيانًا إلى أفعال جسدية خطيرة. هذه الأشكال المختلفة لخطاب الكراهية لا يمكن اعتبارها تعبيرًا عن الرأي، بل هي استغلال سيئ للمنصات لتحقيق أهداف عدائية تُلحق الضرر بالمجتمعات.

مع إدراك خطورة هذا النوع من الخطاب، عمدت منصات التواصل الاجتماعي إلى وضع سياسات صارمة لمكافحة خطاب الكراهية. تعمل هذه المنصات باستخدام خوارزميات متطورة ومشرفين لمراجعة المحتوى وحذف المنشورات التي تحرض على العنف، أو تنتهك القوانين، أو تسعى للإساءة إلى الأفكار والمعتقدات المختلفة. ومع ذلك، تبقى المسؤولية الكبرى على عاتق المستخدمين أنفسهم.

حرية التعبير مسؤولية يتحملها الجميع. يجب أن نمارس هذه الحرية بوعي واحترام، دون أن نستخدمها لإيذاء الآخرين. حتى في الشريعة الإسلامية، نجد أن الحرية ليست مطلقة، بل مشروطة بعدم التعدي على حقوق الآخرين في أنفسهم، أموالهم، أعراضهم، أو أوطانهم. لذا، من الضروري أن ندرك أن حرية التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي يجب أن تكون مصحوبة بضوابط تحول دون التسبب في فوضى تهدد سلامة المجتمع.

في نهاية المطاف، يجب أن تكون حرية التعبير وسيلة للتواصل الإيجابي والتعايش مع الاختلاف. الاختلاف في الرأي يمكن أن يُثري النقاشات ويُضيف إلى التنوع، طالما يُمارس باحترام. أما خطاب الكراهية، فهو خطر يُهدد المجتمعات ويُضعف السلم الاجتماعي. علينا جميعًا أن نختار بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة للحرية المسؤولة، أو كأداة للكراهية، لأن الاختيار النهائي يعكس قيمنا وما نسعى إليه كمجتمع.

شارك المقالة

شارك الخبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *