بقلم أ.م.د.سهير الحلواني
تواجه المرأة المسلمة في العصر الحديث واقعًا معقدًا تتداخل فيه عوامل اجتماعية وثقافية ودينية متعددة. فهي تتعرض لضغوط من تيارات نسوية غربية تسعى إلى فرض نموذج نسائي موحد لا يأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها الدينية والثقافية، وفي الوقت ذاته تواجه تحديات أخرى تنبع من تقاليد محلية تُقيّد حريتها تحت مسمى الدين، رغم أن هذه التقاليد في جوهرها تمثل موروثات اجتماعية متجذرة. هذا الواقع يضع المرأة المسلمة أمام مفترق طرق يتطلب منها موازنة دقيقة بين الحفاظ على هويتها الدينية والثقافية، وبين السعي لنيل حقوقها وتعزيز مكانتها في المجتمع. تُعد النسوية الغربية، التي نشأت في سياقات اجتماعية وثقافية مختلفة، نموذجًا يسعى إلى تحقيق المساواة التامة بين الجنسين في جميع المجالات، وغالبًا ما تتبنى مواقف نقدية تجاه الأديان أو بعض التقاليد الثقافية. هذا النهج لا يتناسب مع واقع المرأة المسلمة التي تعيش في مجتمعات تحترم الدين كجزء أساسي من هويتها. في المقابل، فإن بعض التقاليد المحلية التي تُمارس باسم الدين لا تستند دائمًا إلى نصوص دينية واضحة، بل هي نتاج تراكمات اجتماعية وثقافية قديمة، مما أدّى إلى فرض قيود على المرأة لا علاقة لها بالشريعة الإسلامية. في هذا السياق، نشأت التيارات النسائية الإسلامية التي تسعى إلى التوفيق بين حماية الثوابت الدينية وتمكين المرأة، مع التأكيد على اختلافها عن النسوية الغربية في المنطلقات والأهداف. تهدف هذه التيارات إلى إعادة قراءة النصوص الشرعية، سواء من القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة، من منظور يوازن بين الحفاظ على الثوابت الدينية وتعزيز حقوق المرأة ومكانتها. كما تعمل على تصحيح التفسيرات التي استُغلّت أحيانًا لتقييد المرأة أو تهميش دورها في المجتمع، مؤكدة أن الإسلام جاء ليكرم المرأة ويمنحها حقوقًا شاملة. وتشير إلى أن كثيرًا من الممارسات التقليدية التي تواجهها المرأة اليوم ليست إلا نتاج تحريفات أو تفسيرات ذكورية أو تقاليد اجتماعية متوارثة لا أساس لها في النصوص الدينية الأصلية. ومن هذا المنطلق، تسعى هذه التيارات إلى استعادة روح العدالة والمساواة التي جاء بها الإسلام من خلال الاجتهاد العلمي والبحث الفقهي المستنير. لقد كرم الإسلام المرأة منذ نشأته ومنحها حقوقًا شاملة كانت ثورية في زمانها، ولا تزال تشكل أساسًا مهمًا في النقاشات المعاصرة. فقد رفع الإسلام من مكانة المرأة في المجتمع، وكرمها في أدوارها المتعددة كأم وزوجة وابنة وأخت، وأكد على ضرورة الإحسان إليها والبر بها. فعلى سبيل المثال، جعل الإسلام برّ الأم مقدمًا على برّ الأب، مما يعكس تقديرًا عميقًا لدور الأم في المجتمع والأسرة. كما أمر بالإحسان إلى الزوجة، وحفظ حقوقها المالية والنفسية والاجتماعية، وأكد على معاملتها بالعدل والرحمة. كذلك دعا الإسلام إلى صلة الرحم والإحسان إلى البنات والأخوات والعمة والخالة، مما يعكس أهمية الروابط الأسرية والمجتمعية التي تحافظ على تماسك المجتمع. من الناحية المالية والاجتماعية، أقر الإسلام للمرأة حقوقًا مهمة مثل حق التملك، وحق العمل، وحق الميراث، مما منحها استقلالية مالية نسبية في ذلك الوقت، وهو أمر لم يكن موجودًا في كثير من المجتمعات الأخرى. ومع ذلك، فإن الواقع الاجتماعي والتقاليد الموروثة في بعض المجتمعات الإسلامية قد حدّت من حقوق المرأة، وأحيانًا خالفت روح النصوص الدينية، مما أدى إلى حالات من التقييد والتمييز. في ظل هذه الخلفية، تواجه المرأة المسلمة تحديات معاصرة متعددة، منها ضغط التيارات النسوية الغربية التي لا تراعي خصوصياتها الدينية والثقافية، وأيضًا القيود الاجتماعية والتقاليد التي تُمارس باسم الدين لكنها في جوهرها موروثات اجتماعية. كما تواجه تحديات اقتصادية وتعليمية وسياسية تحد من فرص مشاركتها الفاعلة في المجتمع. لذلك، من الضروري تبني منهجية متوازنة تقوم على تعزيز دور المرأة في المجتمع من خلال التعليم والتمكين الاقتصادي والسياسي، مع احترام الثوابت الدينية والثقافية. كما يجب تشجيع الحوار المجتمعي بين مختلف الأطياف الفكرية والثقافية، وتوفير منصات تجمع العلماء والمفكرين والناشطين والنساء أنفسهن، لبناء وعي جماعي يساهم في صياغة نموذج نسائي معاصر متوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، يلبي تطلعات النساء ويحترم خصوصياتهن الثقافية والدينية. ويمثل بناء هذا النموذج رؤية مستقبلية تعكس تطلعات المرأة المسلمة المعاصرة، وتحترم المبادئ الدينية والثقافية، وتدعم العدالة والمساواة بحسب ما نصته نصوص الشريعة السمحاء. هذا النموذج يفتح المجال للمرأة لتكون شريكًا فاعلًا في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، دون أن تتنازل عن هويتها الدينية والثقافية. ويتطلب ذلك توفير فرص تعليمية ومهنية متكافئة، تشجيع المشاركة السياسية، ودعم المبادرات التي تعزز استقلالية المرأة وتمكينها بما يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية. كما يجب العمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة التي تسيء إلى صورة المرأة في الإسلام، ونشر الوعي الصحيح بين المجتمعات.
ختامًا، تقف المرأة المسلمة اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة تعريف دورها في المجتمع من خلال منهج متوازن يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الثوابت الدينية وحقوق الإنسان، وبين التقاليد والحداثة. وتظل المرأة المؤمنة التقيّة، المتمسكة بدينها وقيمها، هي القدوة والمثل الأعلى الذي يجب الاقتداء به، فهي لا تضيع وسط التيارات المتباينة، بل تسير بثبات نحو مرضاة ربها، ساعيةً في كل خطوة إلى بناء مجتمع أكثر عدلاً ورحمة، تساهم فيه بكل إمكاناتها وقدراتها دون أن تتخلى عن هويتها الإسلامية الأصيلة.