uaosr_img

الثَّـقافة بوصفها ضرورةً في المرحلة الجديدة

بقلم : د. أحمد تمَّام سليمان

كلِّـيَّة الآداب- جامعة بني سويف- مصر

 

في مرحلةٍ جديدةٍ من تاريخ مصر الحديث، وبعد إعادة انتخاب رئيس الدَّولة لولايةٍ جديدةٍ، ثـمَّ تعيـين سلطةٍ تـنـفيذيَّةٍ جديدةٍ بوزرائها ومحافظيها، يطمح المثـقَّـفون إلى الاهتمام بالشَّـأن الثَّـقافيِّ، المصريِّ خاصَّةً والعربيِّ عامَّةً، وتختلف رؤى المثـقَّـفين وقناعاتهم وتصوُّراتهم حسب الأيديولوجيَّات المتعـدِّدة والانتماءات المتـنوِّعة، وفي رأيي أنَّ هذا الاختلاف صحِّيٌّ بل مطلوبٌ، مادام يدعِّم الهُويَّة الوطنيَّة من جهةٍ، ويعلي المصلحة العامَّة على الخاصَّة من جهةٍ أخرى. والثَّـقافة لم تَعُـدْ ترفًا أو رفاهيةً، بل صارَتْ ضرورةً وركيزةً؛ للدِّفاع عن الهُويَّة بشتَّى روافدها، فيجب تعزيز مقـوِّماتها، والانتباه إلى معـوِّقاتها، وإلَّا صار الشَّعب مَسْخًا، لا جذور ينتمي إليها ولا خصائص يدافع عنها، بدءًا من العمل على ترسيخ الوسطيَّة الدِّينيَّة للقضاء على موجات التَّـشدُّد، وترجمة الدِّين لا تـكون باجترار الموعظة، وإنَّما باستـقرار منظومة الأخلاق الحسنة والقيم الإيجابيَّة. ويمكن أن تضع الحكومة للغرس الثَّـقافيِّ ما تضعه للتَّوسُّع (الزِّراعيِّ والصِّناعيِّ والتِّجاريِّ والعمرانيِّ)، من خططٍ مستـقبليَّةٍ؛ بعضها آنِيٌّ أو مُـلِـحٌّ، وآخَرُ قصير المدى، وثالثٌ طويل الأمد، وذلك يستـلزم إعادة هيكلة المؤسَّسات الثَّـقافـيَّة، وفـقًا لما تـتطلَّبه من كفاءاتٍ وخبراتٍ، تـقرأ الواقع جيِّـدًا وتـتطلَّع إلى المستـقبل بوعيٍ، على أن تُراعى نقطتان: أولاهما عدم تغيـير الاستراتيجيَّات بتغـيُّر الأفراد، فالأفكار أرسخ من المناصب، ثانيتهما أن يُـقـتطع من الموازنة العامَّة للدَّولة التَّمويل الكافي؛ لتـنـفيذ المشروعات الثَّـقافـيَّة حتَّى لا تـتوقَّـف. والعمل على التَّـنسيق بين المؤسَّسات الثَّـقافـيَّة الرَّسميَّة، فهي غالبًا تعمل في جزرٍ منعزلةٍ؛ لذا تـتـشابه بعض الأنشطة وتـتـكـرَّر بعض الفعَّاليَّات، تبعًا لرغبة بعض المسؤولين، وقد تُـتجاهل بعضها لأنَّها لم تحظَ بهذه الرَّغبة، رغم احتياج الجمهور إليها، وعادةً ما يكون الاهتمام منصبًّا على جمهور العاصمة؛ لما يحظى به النَّشاط من تغطيةٍ إعلاميَّةٍ، بينما تـظلُّ الأقاليم والأطراف متعطِّشةً إلى الخدمة الثَّـقافـيَّة. وتـفعيل بروتوكولاتٍ بين المؤسَّسات الثَّـقافـيَّة الرَّسميَّة (مثـل: المجلس الأعلى للثَّـقافة والمركز القوميِّ للتَّرجمة والهيئة العامَّة لقصور الثَّـقافة وصندوق التَّـنمية الثَّـقافـيَّة والهيئة العامَّة للكتاب ودار الكتب والوثائق القوميَّة واتِّحاد الكُـتَّاب ومكتبة الإسكندريَّة وأكاديميَّة الفنون ودار الأوبرا)، والوزارات والهيئات المعنيَّة (مثـل: وزارة التَّـربية والتَّـعليم ووزارة التَّـعليم العالي ووزارة الشَّباب والرِّياضة ووزارة الأوقاف ووزارة السِّياحة والآثار والإعلام، والأزهر الشَّريف والمجلس الأعلى للشُّؤون الإسلاميَّة ومجمع اللُّغة العربيَّة والمجمع العلميِّ)، كذلك تـفعيل بروتوكولاتٍ بين المؤسَّسات الثَّـقافـيَّة الرَّسميَّة وغير الرَّسميَّة؛ لإمكانـيَّة الانطلاق نحو تحقيق مقـترحاتٍ مبتـكرةٍ. والبحث عن الموهوبين منذ الطُّفولة في العلم والأدب والفنِّ ورعايتهم ودعمهم، من خلال مَسْـرَحَةِ المناهج ومسابقات أوائل الطَّلبة والأشبال والكشافة… وغيرها، فالأداء المستـقـبليُّ للمسؤول الموهوب الَّذي حظي بالرِّعاية والدَّعم منذ صغره سيختـلف عن أقرانه، في الابتكار والإجادة والدِّقَّة. والعمل على زيادة هامش الجمال في المجتمع؛ ليحدَّ من هامش القبح المستـشرِي، فحرص الأسر على تعليم أبنائها جيِّـدٌ، والأجود أن يتمتَّع هذا المتعلِّم بالانخراط في مجتمع القراءة، والعزف على آلةٍ موسيقـيَّةٍ أو ممارسةٍ لعبةٍ رياضيَّةٍ، في أثـناء رحلته التَّعليميَّة، ربَّما تحدُّ هذه الأنشطة من توتُّره وترقُّ من طبعه، وتـدرِّبه على الاندماج في فرق العمل، وتغرس فيه قيم التَّـشارك والتَّعاون. وتيسير حصول قصور الثَّـقافة على نسبتها من موارد المحافظات؛ لاستـثمارها في برامجها الثَّـقافـيَّة، وتبنِّي هيئة الكتاب طبع المجلَّات الثَّـقافـيَّة والأدبيَّة الَّتي تـفـتـقر إلى التَّمويل، فـقـد توقَّـفَـتْ مجلَّة “الشِّعر”، ولولا دعم الهيئة لمجلَّة “أدب ونقد” لتوقَّـفَـتْ، وبوجهٍ عامٍّ فهناك ضرورةٌ مُـلِحَّةٌ لزيادة مكافآت الباحثين في المؤتمرات، والمحاضرين في النَّدوات، والكُـتَّاب في المجلَّات، والمبدعين في العروض، والأدباء في النَّوادي… وغيرهم، بما يتـناسب مع ضغوط العصر ويضمن استمراريَّة الإبداع.ولعلَّنا في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى الاقـتـداء بالتَّجارب النَّاجحة في العمل الثَّـقافيِّ العربيِّ؛ لما اتَّسَمَتْ به من اتِّساع الرُّؤية ودقَّة التَّـنظيم وسخاء التَّمويل، مثـل: مركز الجاسر الثَّـقافيِّ أو “دارة العرب” في الرِّياض، ومجلَّته “العرب” المحكَّمة، بجهود المؤرِّخ والمحقِّـق والأديب السُّعوديِّ حمد الجاسر. و”مؤسَّسة يمانيّ الثَّـقافـيَّة الخيريَّة”، و”مؤسَّسة الفرقان للتُّراث الإسلاميِّ” في لندن، بجهود وزير البترول السُّعوديِّ الأسبق أحمد زكيّ يمانيّ. و”مؤسَّسة البابطين الثَّـقافـيَّة”، الَّتي أصدرَتْ معجم الشُّعراء المحدثين والمعاصرين منذ القرن التَّاسع عشر الميلاديِّ، بجهود رجل الأعمال الكويتيِّ عبد العزيز سعود البابطين. وشركة الكمبيوتر “صخر” للبرمجيَّات، وريادتها في حوسبة الحَرْف العربيِّ، و”أرشيف الشَّارخ” للمجلَّات الأدبيَّة والثَّـقافـيَّة العربيَّة في خدمة مجتمع البحث العلميِّ، بجهود رجل الأعمال الكويتيِّ محمَّـد الشَّارخ. و”مركز الماجد للثَّـقافة والتَّراث” في دبيّ، ومجلَّته “آفاق الثَّـقافة والتَّراث” المحكَّمة، بجهود رجل الأعمال الإماراتيِّ جمعة الماجد، وغيرهم من أصحاب الفكر المستـنير الَّذين عـدُّوا الثَّـقافة ترسيخًا للهُويَّة العربيَّة الإسلاميَّة. ويجب تـفعيل دور نوادي الأدب في قصور الثَّـقافة والمدارس والجامعات والنِّقابات وغيرها، وبموازاتها دعم الصَّالونات الثَّـقافـيَّة، وحال عمل الأحزاب السِّياسيَّة يجب الاهتمام بتـنشيط اللِّجان الثَّـقافـيَّة فيها، ولعلَّ ما تـفـرِّقه السِّياسة تجمعه الثَّـقافة، خاصَّةً إذا تمركـزَتْ حول الهُويَّة، وتـنظيم لقاءاتٍ تجمع رموز الثَّـقافة ومبدعيها برجال الأعمال الوطنـيِّـين؛ للتَّـنسيق فيما بـينهم على دعم الأنشطة الثَّـقافـيَّة، ومواجهة تحدِّياتها الجسيمة. كما يجب الانفتاح على ثـقافة الآخَر، وتـقـديم ثـقافتـنا العربيَّة له بما يليق بتاريخها ومكانتها، وذلك عن طريق حركة التَّرجمة من اللُّغة العربيَّة وإليها، فالتَّرجمة جسرٌ ثـقافيٌّ له أهمِّـيَّـته في التَّواصل الحضاريِّ بين الأمم، وليس معنى تعلُّم لغةٍ أجنبيَّةٍ استبدالها باللُّغة القوميَّة. ومن جهةٍ أخرى فيجب تـنـشيط دور المراكز الثَّـقافـيَّة، سواءً العربيَّة أم الأجنبيَّة التَّابعة لسفاراتها، فـقـد أُقِـيمَـتْ على أرضٍ وطنيَّةٍ بغية التَّواصل بين الشُّعوب، خاصَّةً أنَّ اهتماماتها منصبَّةٌ على تعليم اللُّغات ونشر الآداب، والوقوف على منجز العلوم الإنسانـيَّة، والتَّعريف بالعادات والتَّـقاليد والأعراف والطُّقوس، وفهم ما يتَّصل بها من المأكل والمشرب والملبس والدَّاء والدَّواء، ويعبِّر عن الأفراح والأتراح أو الأعراس والمآتم، وما يتعلَّـق بحقائق التَّاريخ والواقع أو جدل الأسطورة والخرافة، وبكلِّ ما يشكِّل الوعي ويحفظ الهُويَّة وينطلق نحو آفاق المستـقبل.

***

شارك المقالة

شارك الخبر

One Response

  1. موضوع مهم، بوركت دكتورنا الفاضل، أكيد بالمحافظة على التراث والاهتمام بالرموز الثقافية نعزز هويتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *