بقلم الكاتب الصحافي عبدالله العبادي
المختص في الشؤون العربية والإفريقية
شعارات كثيرة تتداول في واقع اليوم، تظهر من الوهلة الأولى وكأنها شعارات عادية، لكنها في العمق تحمل الكثير من المعاني والدلالات، إنها تعبير صادق عن وطنية حقيقية، عن رغبة في العيش الكريم في وطن يحضننا، إشارات للساسة بأننا نقتسم نفس البقعة الجغرافية، لكننا لا نقتسم نفس التاريخ الاجتماعي الطبقي، لكن تاريخ الوطن يوحدنا ويجمعنا، إنه التاريخ والحاضر رغم قساوته والأمل في غد أفضل.
فعلماء الاجتماع مطالبون اليوم بتفكيك شفرات الشعارات المرفوعة هنا وهناك، وهذا دورهم كمثقفين وباحثين، إن “سوسيولوجيا الشعارات” إذا أمكن تسميتها هكذا، تهدف بالأساس إلى تفكيك شفرات ورموز الشعارات الجماهيرية الهادفة إلى التغيير نحو الأفضل، إذن نحن بحاجة إلى علماء اجتماع ملتزمين بالقضايا الوطنية حاملين لهموم المجتمع والوطن، هم وحدهم القادرين على القيام بوصف دقيق لسوسيولوجيا الحياة اليومية التي يعيشها المواطنون.
السوسيولوجي الملتزم وحده القادر على التعبير بصدق وموضوعية عن المشاكل الحياتية والروحية التي يعاني منها عامة الشعب. وهذا ما يميز السوسيولوجيا عن باقي العلوم الإنسانية والاجتماعية كونها تهتم بالوصف والتجارب الميدانية بلغة متقنة تقرأ الواقع والبشر والوجوه، وتغوص في جغرافيا الروح والعقل، كما يقول عالم الاجتماع سمير الشميري في كتابه “مجتمع كسيح ونخب متوحشة“.
إنه يدق ناقوس الخطر، ويرصد انهيارات القيم والأخلاق وتصدع المجتمع، على صعيد البنى والمؤسسات، وذوبان الطبقة الوسطى وتدهور الحياة المعيشة اليومية. إنه دراسة وصفية سوسيولوجية لظاهرة النخب المتوحشة والمجتمع الكسيح ونظرية الصدمة وتغير نمط الحياة، وأدوات التدمير والخراب التي استخدمت في صناعة الأزمات بطريقة علمية.
ما أحوجنا لأعمال كثيرة ومبادرات كهذه، لفهم تحولات المجتمع اليوم، والإجابة عن العديد من الأسئلة التي تثقل كاهلنا في مجتمع يتصدع يوما بعد يوم. لنساءل دور النخب المثقفة، وعلاقة الفكر المعاصر بالممارسة السياسية، وعلاقة المفكر بالسياسي، ماذا نعني بسوسيولوجيا الحياة اليومية ولماذا انهارت القيم الاجتماعية، وما أهم قسمات ملامح المجتمع المضطرب اجتماعيا؟
يقول بيير بورديو أن المثقف كان دوما يكشف زيف السياسي، فهل يفعلها اليوم المثقف السوسيولوجي، كيف ينظر للوضعية الراهنة، أم صار يخضع للسلطة والنخب واللوبيات الضاغطة؟ السوسيولوجي الملتزم هو فرد سياسي قبل كل شيء كما يرى بورديو، ليساهم في صنع القرار ويضغط لتحقيق التغيير والمساهمة في وضع السياسات العمومية، عليه أن يفقه ويمارس السياسة جيدا.
السوسيولوجي الملتزم اليوم يجب أن يكون مستقلا وموضوعيا، لا يجب أن يخضع لإيديولوجيا معينة، وعليه تحديد خياراته وأفكاره طبقا لحاجة المجتمع ويقود التهيئة ثم التغيير المنشود. نعرف جيدا ما حققته أفكار بداية الستينيات مع بيير بورديو وألان تورين وإدغار موران وأخرون، كيف مهدوا لإنشاء الجمهورية الخامسة بفرنسا بشكل عقلاني بعيدا عن التعصب والغلو. المثقف مطالب بإيجاد حلول وصيغ لمشاكل المجتمع بعيدا عن العنف والإصطدامات، لأنه يحمل هموم المجتمع والوطن بشكل صادق، إنه بمثابة مثقف ورجل دولة.
المجتمع العالمي يتحرك بسرعة رهيبة، لا مجال لمفهوم الزمن اليوم، وضريبة العجلة واضحة جدا، والعديد من البشر يتعجلون لقيادة الكوكب نحو الانهيار والانطفاء كما يرى المفكر الكندي كارل أونوريه في كتابه “في مديح البطء: حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة“.
لا نطالب علماء الاجتماع بتوقيف الزمن ولا إبطائه، بل مجاراته ومجاراة التحولات المجتمعية السريعة والوقوف عند الظواهر الاجتماعية الغريبة التي تسود المجتمع اليوم وتتغلغل دون استئذان، ومحاولة فهم الشباب والنساء والطبقات التي تعيش على هامش المجتمع، وأيضا نقد النخب نقدا بناء ومحاولة التأثير فيها، حماية للمجتمع وللوطن.
في نظري يمثل كتاب ألان تورين “من أجل السوسيولوجيا”، مقدمة لما يسمى بمنهجية التدخل السوسيولوجي التي تهدف إلى دراسة الحركات الاجتماعية، حيث يفترض في عالم الاجتماع أن ينخرط في الحركة، وأن يقوم بدراسة الفعل من داخلها دون تبني إيديولوجية الفاعلين (القائمين بالفعل)، وهو ما يؤكده حول مهمة عالم الاجتماع بقوله: “ينخرط في الحركة، نعم؛ ولكن يجب عليه أيضا أن يتخلص من تنظيمها”، هذا يعني أيضا التركيز على الأفراد عند عامة الشعب وليس مع الساسة أو المثقفين الإيديولوجيين الواقعين تحت تأثير الخطوط المخصصة لاشتغالهم للحفاظ على أدوارهم.
العالم العربي، اليوم، وبرمته بحاجة لميلاد سوسيولوجيا جماهيرية جريئة، تجادل الواقع بالشكل المطلوب تبحر في أعماق الظواهر الاجتماعية المختلفة والبحث في مدلول الحديث اليومي للمواطن البسيط وانشغالاته وآماله وأحلامه، والبحث عن سبل كفيلة للعيش الكريم، وربط جسور بناءة للحوار مع النخب السياسية من اجل خدمة الوطن والمواطن.