المنظمة العربية المتحدة للبحث العلمى

لله يا محسنين

بقلم:   د. محمد عبد العزيز

 

ما أحوجنا إلى ثقافة الإحسان لتعالج العديد من الأمراض التي تفشت في مجتمعاتنا، لكن قبل أن نتناول هذه الثقافة الربانية الجميلة لابد أن ندرك أنها من أصول الدين الرئيسة الواردة في كل الشرائع السماوية التي أرسل بها كل الأنبياء والرسل لعمارة الأرض واستقامة الحياة واختبار البشر، فأمرت الناس بالإحسان واعتبرته أحد أصول تعاليم الله تعالى للعباد والإحسان معنى يجب أن يسع كل شيء من حولنا  .

 ما الدين ؟

 إسلام وإيمان وإحسان والمعنى الأخير هو أعلى مراتب المعنى الثاني ، ويشير إلى أن نعبد الله كأننا نراه لأنه يرانا في كل دقائقنا ، وقد أكد النبي ﷺ على ذلك حينما قال أن الإحسان إلى الخلق  سبب لرضا رب الخلق وسبب لجلب الخير ودفع الشر . لكن ثمة عدد من التساؤلات المهمة نحاول الإجابة عليها في هذا المقال ، أول تلك الأسئلة من أولى الناس بإحسانك ؟ الإجابة القطعية الثبوت الوالدان لكونهما سبب وجودك في الدنيا ووصية الله لعباده :” وصينا الإنسان بوالديه إحساناً ” وهما أحق الناس بحسن صحابتك كما قال النبي :”أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك” وبعدهما يأتي بقية الناس من زوجة وأولاد وإخوة وغيرها من صلات القرابة والأحبة .

ومن يأتي بعد الوالدين في ترتيب الإحسان؟

الإحسان للزوجات والأولاد لقوله تعالى: ” وعاشروهن بالمعروف ” وقول النبي ﷺ :” استوصوا بالنساء خيراً ” وقال: ” خيركم خيركم لأهله ” ، ومن أحسن إلى زوجته كأنما أحسن إلى أبناءه الذين يتعلمون منه تلك العبادة الرئيسة في الدين  ، ومن الإحسان إلى الأبناء  تعليمهم بالقدوة وتربيتهم على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وإبعادهم عما يضرهم ،  ومنح الأبناء حقوقهم أول درجات الإحسان لهم بأن تختار لهم أماً صالحة وتتخير لهم أفضل الأسماء ثم تعلمهم أمور دينهم بالقدوة قبل الكلم ثم تنفق عليهم من حلال ولا تبخل عليهم؛ لأن الله تعالى سيسألك يوم القيامة عن رعيتك ، هل ضيعتها وبخلت عليها أم أنفقت؟  فخير دينار ما ينفقه الرجل على أبناءه فيقيهم شر الحاجة وسؤال  سوى أبيهم ، ومن ضيع رعيته ضيعه الله في الدنيا وعاقبه في الآخرة .

 ومن أولى بالإحسان بعد الزوجة والأبناء؟ 

كلام الله تعالى واضح الترتيب: ” واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً ” النساء (الآية 36) .

و يأتي في ترتيب الإحسان بعد الزوجة والأبناء الإحسان لذوي القربة والرحم ( فلا نسمع للأقوال المتخلفة التي تسوق لمعاني من مثل أن الأقارب عقارب وغيرها من المقولات التي تدعو للتفكك الأسرى   ) . إليهم أذكر نص حديث للخالق سبحانه وتعالى: ” إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى ” سورة النحل (الآية 90) . وآية آخري: ” وآت ذا القربى حقه ” سورة الإسراء (الآية 26) ، وفي نص آخر قال تعالى: “واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا” سورة النساء (الآية 1).

ومن مظاهر الإحسان إلى الأقارب صلتهم وإن قطعوك ، تفقد أحوالهم  والصبر على آذاهم ومقابلة جحودهم بإحسان لأنك تحقق أمر الله لعباده . وحديث آخر يحث على صلة الأرحام: أَنَّ رسولَ اللَّه ﷺ قَالَ: “مَنْ أَحبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزقِهِ، ويُنْسَأَ لَهُ في أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ”  ، وحديث آخر أتَى النَّبيَّ ﷺ رجلٌ فقال إنِّي أذنبتُ ذنبًا عظيمًا فهل لي من توبةٍ فقال :هل لك أمٌّ قال: لا قال: فهل لك من خالةٍ قال: نعم قال: فبِرَّها يغفر الله لك ببرها . ولدينا العديد من الأمثلة المنقولة عن مواقف للنبي ﷺ  يأمر فيها أصحابه ببر الأقارب ، فقد كان أَبُو طَلْحَة أَكْثَر الأَنصار بِالمَدينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ في مكان يسمى بيرحاء ، ، فَلمَّا نَزَلَتْ هذِهِ الآيةُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قَامَ أَبُو طَلْحة إِلَى رسولِ اللَّه ﷺ فَقَالَ: يَا رسولَ اللَّه، َإِنَّ أَحبّ مَالِي إِليَّ بيرحَاء، وإِنَّهَا صَدقَةٌ للَّهِ تَعَالَى، أَرجُو بِرَّهَا عِنْد اللَّه تَعَالَى، فانصحني أين أتصدق بها ، فقال رسولُ اللَّه ﷺ: ذلِكَ مالٌ رابحٌ، ذلِكَ مالٌ رابحٌ، وإِنِّي أَرى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْرَبِين،  فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحة في أَقارِبِهِ وبَنِي عمِّهِ.

ثم من بعد ذلك أولى بالإحسان؟ 

بحسب ترتيب الإحسان في الآية الكريمة فإنه بعد الوالدين والزوجات والأبناء وذي القربى تأتي مرحلة الإحسان إلى اليتامى والمساكين والجار ذي القربى، ثم الجار الجنب، ثم الصاحب بالجنب فابن السبيل ، فالإحسان إلى اليتامى بجبر خواطرهم وكفالتهم وبرهم ورعايتهم والإسهام في تعليمهم ثم الإحسان إلى المساكين بدفع فقرهم وسد احتياجاتهم بقدر الإمكان . ثم الإحسان إلى الجار “: فمن  وصايا النبي ﷺ  ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، وفي رواية آخرى فليحسن إلى جاره  ولا يؤذي جاره  وخير الجيران خيرهم لجاره  ولا يؤمن من بات شبعان وجاره جائعا وكثير من الأحاديث توصينا بالإحسان إلى الجار ، وهنا لابد من الإشارة إلى أجمل الأحاديث في رعاية الجار ” جاء رجل الى النبي  قال دلني على عمل لو فعلته دخلت الجنة قال له كن محسناً  قال وكيف اعرف اني محسن ؟ قال  إن قال جيرانك أنك محسن فأنت محسن وإن قالوا أنك مسيئ فأنت مسيئ . والأولى بالإحسان الجار من الأقارب ثم الجار الأقرب مكاناً من غير الأقارب ثم الصاحب بالجنب أي: المرافق لك في سفر أو عمل وذلك بالنصح والإرشاد والدعم بقدر الإمكان ونصرته ظالماً أو مظلوماً والوفاء معه في اليسر والعسر ، وأن تحب له ما تحب لنفسك ، وقد قال النبي: ” خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه ، والصاحب  التقي يأخذ بيد صاحبه معه إلى الجنة فلا يجب أن نستهين بالصحبة الصالحة  بل يجب أن نبحث عنها ونعطيها حقها ونتمسك بها إن وجدناها . بعد ذلك يأتي الإحسان إلى ابن السبيل أي: الغريب عن بلده بإكرامه وتأنيسه ومساعدته .

وماذا بعد من الإحسان يتبقى في الترتيب؟

 الإحسان إلى من يعمل لديك ، بإنصافهم ومنحهم حقوقهم المالية والمعنوية وكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم والسعي لإعانتهم وعدم ظلمهم ، كذلك الإحسان إلى الحيوانات وإلى كل الممتلكات العامة التي يستفيد منها الجميع بحسن التعامل معها وعدم اتلافها والإحسان إلى المزروعات جميعها خاصة وعامة . تصدق على نفسك بالإحسان إليها فمن أحسن إلى عباد الله كأنما أحسن إلى نفسه بعتقها من النار ، أحسن وتصدق فالكلمة الطيبة صدقة ، والابتسامة صدقة ، والعدل صدقة ، والإحسان صدقة ، فأحسن يحسن الله إليك ، أحسن  إلى أمك وأبيك وزوجك وأبنائك وإخوانك وعمك وخالك وأقاربك وجارك وأصحابك وإلى معلمك وإلى ابن السبيل وإلى الناس جميعاً ، أحسن إلى الشجر إلى الحجر ،  كن محسناً فالنفس يخرج ربما لا يعود والدنيا قصيرة ولا تساوي عند الله جناح بعوضة ، فلا تظلم نفسك  أحسن إليها بحسن الاختيار في كل خيار،  واستفق قبل فوات الأوان فالظلم ظلمات يوم القيامة لن ينفعك مال ولا بنون إلا أن تأتي إلى ربك بقلب سليم وإحسان لعباده .

المحسنون في الجنة ، نسأل الله تعالى أن أكون وكل من قرأ هذا المقال في زمرة المحسنين فما أجملها من مرتبة وما أحوجنا إليها دواء شافي لما في الصدور من علل مكنتها الدنيا من  قلوبنا فأحاطتنا كبيت العنكبوت ، القوي من استطاع الخروج  من تلك الشرنقة الخانقة ، فكن محسناً تنل الجنة ولله دركم يا محسنين .

شارك المقالة

شارك الخبر

28 Responses

  1. احسنتم واحسن الله عليكم استاذنا الموسوعي الاحسان هو لغة الروح حين تعجز الالسنة عن التعبير من اجمل المقالات جانعة مانعة لكل ماجاء في فضل الاحسان فهي من اجمل معالم الاسلام في مرتبة الرقي العالية لايصل لها من عرف دينه ومبادئ الاسلام تحية لكم فقد احسنتم الينا بهذه الجواهر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *