الدراسات الإستراتيجية تُعد مجال أكاديمي مُتداخل التخصصات، ارتبط مُياشرة بالسياسة العُليا للدولة، بمعنى أنها ذات صفة سياسية، والسياسة العُليا للدولة في واقعها ومكنونها أهدافًا كُبرى أوسع من أن تنحصر بالغرض العسكري فقط، وإنما هي أهداف ترتبط بظروف أي دولة في حالتي السلم والحرب على حدٍ سواء.
وبما أن مفهوم الإستراتيجية عمومًا عبارة عن “مجموعة السياسات والأساليب والخطط والمناهج المُتبعة من أجل تحقيق الأهداف المُسطرة في أقل وقت ممكن، وبأقل جهد مبذول”، بهذا نجد أن دلالة المفهوم تُشير مُباشرة على الهدف الذي ينشدهُ الفعل، فكل فعل أو حركة تتوخى تحقيق هدف مُعين، أو أهداف مُحددة؛ نطلق عليها مجازًا “إستراتيجية”.
إلا أن هذه الأفعال أو الحركات التي تسعى إلى تحقيق أهداف مُحددة، هي بحاجة إلى ضبط وتنظيم وتنسيق، أي وفق خطة وصولاً إلى الهدف المُراد تحقيقه، ولكن بلوغ الهدف من الناحية العملية لا يقتصر على وجود التخطيط فقط، إنما يفترض توفر “الوسائل” التي تُعين عملية التخطيط وصولاً إلى الهدف، حتى نتحصل على العملية التي تجمع بين الخطط التي تنشد بلوغ الهدف، والوسيلة المُتلحة التي تُعين على تحقيق هذا المنشود، وهي ما نطلق عليه بـ “الإسترتيجية”.
بهذا .. الهدف الإستراتيجي يُعد الهدف الرئيسي الذي تود المؤسسة تحقيقه بنهاية المسار الذي تضعه الإدارة العُليا، وتسعى الجهة إلى تحقيقه بعد تحويله إلى أهداف تفصيلية وذلك من خلال تحديد وتقييم البدائل الُمتاحة المطلوبة لتحقيق رؤيتها ورسالتها.
أما عن التصور الشمولي لِما تعنيه الإستراتيجية؛ يُمكن تعريفها بالقول: أن الإستراتيجية هي “علم وفن استخدام الوسائل والقدرات المتاحة، وفي إطار عملية متكاملة يتم إعدادها والتخطيط لها، بهدف خلق هامش من حرية العمل من شأنها أن تُساعد صُناع القرار على تحقيق أهداف سياستهم بُغية التوفيق بين الأهداف المُراد تحقيقها والوسائل المتوفرة لهذه أو تلك الغاية، وبمعنى أخر؛ فهي الموائمة بين الهدف والوسيلة، بحيث لا تكون الوسائل عاجزة عن تحقيق الأهداف، الأمر الذي يُتيح للعامل بعلم الإستراتيجيات التكييف أو الموائمة بين الهدف والوسيلة التي بدورها خلق فرصًا للحركة المرنة والمنضبطة نحو تحقيق الأهداف المرجوة بشكل سليم وآمن.
كما ينبعي معرفة أن رسم الإستراتيجيات من المُمكن أن تأخذ في اعتبارها العلاقات المُتداخلة بين المُتغيرات المُختلفة والتأثير المُتبادل الذي تُمارسه كُل منها على الأخرى وعلى العملية ككل، ومثال ذلك: علاقات مُتبادلة بين الأهداف والوسائل؛ فاختيار هدف بعينه قد يتضمن انحيازًا إلى مجموعة من الوسائل دون غيرها، كما تبني واستخدام وسائل مُعينة من شأنه أن يفرض في المُستقبل أهدافًا بعينها، وهكذا؛ فتحديد الأهداف يتضمن اختيارًا للوسائل، وأيضًا فإن المتاح من الوسائل يؤثر على اختيار الأهداف أو طريقة التعامل معها في مرحلة لاحقة، وبهذا تظهر علاقة جدلية ضمن التصور الإستراتيجي يُمكن إداركها عند تحديد العلاقة ما بين الهدف والوسيلة.
وبالنسبة لعملية الجمع بين الهدف والوسيلة في علم الإستراتيجيات يفترض عنصر غاية في الأهمية، ألا وهو عنصر “القدرة”، أي القدرة على استخدام الوسائل لإنجاز الأهداف، فالأهداف تبقى مُعطلة والوشائل غير ذات قيمة ما لم تتوفر القدرة على توظيف الوسائل لبلوغ الأهداف المُراد تحقيقها، والقدرة على استخدام الوسيلة لإنجاز أهداف معلومة ينطوي في الواقع على “فن” أو “مهارة” استخدامها، وهنا تكمن أهمية الخبراء في هذا المجال “خبراء الدراسات الإستراتيجية” بيد أن الخبراء بحوزتهم إمكانات هذا الفن “فن استخدام الوسيلة” ومقصد الأمر هنا؛ تلك المهارة في تطويع الوسيلة لبلوغ الهدف، أو المهارة في تكييف الوسيلة مع الهدف، فكم من الدول تمتلك الوسائل ويكون لديها هدف، إلا أنها تبقى عاجزة عن تأمينها بسبب غياب مهارتها على توظيف الوسائل التي بحوزنها خدمة الأهداف التي تتطلع إلى إنجازها، وبالمقابل؛ هناك بعض الدول تكون وسائلها محدودة نسبيًا، إلا أنها تستطيع تحقيق نسبة هامة من أهدافها، الأمر الذي يعود إلى عنصر الفن والمهارة في توظيف الوسائل والإمكانيات المُتاحة وتكييفها بحيث تكون قادرًا على تحقيق ما تُحدده من أهداف.
خُلاصة القول .. الدراسات الإستراتيجية في جوهرها هي علاقة بين الوسائل والأهداف، إذ تُعد أداةً للوصول إلى تحقيق الأهداف، وترتكز هذه العلاقة على تجسد القدرة “الخبرات” في تكييف الوسائل “الموارد والإمكانيات المُتاحة” والعمل على توظيفها بطريقة مدروسة ومنضبطة تُعين على تحقيق الأهداف المرسومة وفق الأساليب والأدوات المنطوية عليها العملية الإستراتيجية.
بهذا .. نصل إلى وصف أكثر عمق للإستراتيجية؛ بأنها علاقة بين الحاضر والمستقبل، وهي تحديد المناهج والأدوات في ضوء رؤية مستقبلية للأهداف، ونظرة فلسفية للتطور، وهي تتضمن بالضرورة “تصور على تصور، وبديل على آخر”، مِما يترتب على ذلك إستنتاج ثلاث نتائج رئيسية، والتي نأتي على سردها تباعًا:
1. إن الدراسات الإستراتيجية ليست قاصرة على مجال مُعين دون غيره من المجالات، ومن غير الصحيح القول أنها مرتبطة بالجوانب العسكرية فقط، ففي أيًا من القطاعات أو المجالات العلمية أو حتى المعرفية من منظورها العملي أن تتضح فيه الأهداف فتوضع إستراتيجية ملائمة ومُستعينة بوسائل مُحددة لتحقيقها، ومثال ذلك: أن توضع إستراتيجية قومية عامة أو شاملة تتعلق بالمُجتمع ككل في أي دولة.
2. إن أية إستراتيجية تقوم على عدد من الافتراضات النظرية والفكرية المرتبطة بالأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، وبالواقع الذي تنطلق منه وبالوسائل التي تقترح استخدامها، وهذا مرتبط بالعقيدة السياسية والفلسفة الاقتصادية والاجتماعية التي تحملها الدولة ضمن مشروعها التطويري، بيدأن الإستراتيجية في هذا المقام عبارة عن “أسلوب في التفكير وطريقةً في العمل”.
3. إن عملية وضع إستراتيجيةً ما؛ هي في الحقيقة البحث عن أفضل الأساليب والطُرق والأدوات لتحقيق الأهداف التي تُحددها النُخبة القائمة على المشروع المُراد إنجازه، كما لهذه العملية الإستراتيجية أن ترتبط بغيرها من الإستراتيجيات من ناحية، كما أنها تعكس تطورات وافتراضات نظرية من ناحية أخرى.
ختامًا .. الإستراتيجيات تعني أولاً وقبل كل شيء؛ قدرة صُناع القرار على تأمين صيغة توفيقية بين الأهداف والوسائل، بحيث أن لا تكون الوسائل عاجزةً عن تحقيق الأهداف، وأن تكون الأهداف أكبر حجمًا مِما هو مُتاح من إمكانيات ووسائل، ويتضمن ذلك تفاصيل أساليب الإنجاز، وتوقيت العمليات، ونظام تتابع الأنشطة، ومكان تنفيدها، وحجم ونوع الموارد المادية والبشرية اللازمة لإنجازها، ومسؤولية تنفيذ كل جزء من أجزاء الخطة، ومستويات الأداء المرغوب فيها، وأشكال المُتابعة والرقابة اللازمة.
التعريف بالكاتب
أ.د. خالد عبدالقادر منصور التومي
عضو هيئة التدريس
بكلية العلوم – جامعة القاهرة – زميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا
– عضو مجموعة البحث والتطوير للزراعة الحيوية والأغذية المستقبلية (JRDGs)، بمركز كومساتس للتكنولوجيا الحيوية الصناعية (CCIB) في الصين
One Response
احسنت